الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية **
قال تعالى : وفي الآخرة كذلك يميز الله بينهم، فهؤلاء يكرمهم بجنته، وهؤلاء يعذبهم بناره وعقوبته؛ لأنه سبحانه حكيم يضع الأمور في مواضعها، فلا يضع الرحمة إلا فيمن يستحقها، ولا يضع سبحانه وتعالى العذاب إلا فيمن يستحقه. لكن قوله: (أهل معرفته) فيه قصور وإيهام أن الإيمان هو مجرد المعرفة كما يقوله غلاة المرجئة فلو قال: (أهل طاعته) لكان أحسن وأوضح. هذا من أجمل كلام المصنف يرحمه الله! إنه لما ذكر هذه المسائل العظيمة الخطيرة سأل الله التثبيت، ألا يضله الله مع أصحاب هذه الضلالات وأصحاب هذه المقالات الضالة، فهذا من الفقه والحكمة؛ أن الإنسان لا يغتر بعلمه، ويقول: أنا أعرف التوحيد وأعرف العقيدة، وليس عليّ خطر، هذا غرور بل عليه أن يخاف من سوء الخاتمة والضلال، يخاف أن ينخدع بأهل الضلال، كم من معتدل انحرف، خصوصاً إذا اشتدت الفتن، يصبح الرجل مسلماً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، ويبيع دينه بعرض من الدنيا، كما صح الحديث بذلك الفتن إذا جاءت يسأل الإنسان الله الثبات (2) هذا فيه مسألتان: الأولى: أن الصلاة عمل وإحسان، فإذا فعلها الناس خصوصاً ولاة الأمور، فإنهم عملوا معروفاً وإحساناً، وفي ترك الصلاة خلفهم فيه محظور عظيم، من شق العصا، وتفريق الكلمة، وسفك الدماء وهذا خطر عظيم، فيجب أن يُتلافى، قال عليه الصلاة والسلام: هذا مذهب أهل السنة والجماعة، يصلون الجمع والجماعات، ويجاهدون في سبيل الله مع كل أمير، براً كان أو فاجراً، ما لم يخرج عن الإسلام. هذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، من عهد الصحابة إلى عهد الأئمة، وهو الذي عليه إجماع المسلمين من أهل السنة والجماعة. المسألة الثانية: الصلاة على جنازة المسلم وإن كان فاسقاً، ما لم يخرج من الإسلام، فهو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، أما إذا خرج عن الإسلام فلا يصلى عليه؛ لأنه ليس بمسلم، وليس كل إنسان يَحكُمُ على الناس بالردة، إنما يحكم بذلك أهل العلم والبصيرة بالرجوع إلى قواعد أهل السنة والجماعة، أما كل أحد فلا يحكم بذلك، وإن كانت نيته طيبة ومقصده حسناً، إنما الحكم لأهل البصيرة والراسخين في العلم. نحن لا نشهد لأحد، مهما بلغ من الصلاح والتقى، لا نشهد له بالجنة؛ لأننا لا نعلم الغيب، ولا نحكم لأحد من المسلمين بالنار مهما عمل من المعاصي، لا نحكم عليه بالنار؛ لأننا لا ندري بما ختم له وما مات عليه (4) فنحن ما لنا إلا الظاهر فقط، وكذلك لا يحكم لأحد بالنار، إلا من شهد له بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء بجنة أو نار، مثل العشرة المبشرين بالجنة، وهم الخلفاء الراشدون الأربعة، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وطلحة بن عبيد الله، رضي الله عنهم، فعن سعيد بن زيد حدّث في نفرٍ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (5) الحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا شهد لأحد بالجنة، فإننا نشهد له بالجنة، ونقطع له بالجنة، وأما غيره فلا نقطع له، ولكن نرجو له الخير. وكذلك الكافر المعين لا نحكم عليه بالنار؛ لأنه قد يتوب ويموت على التوبة، يختم له بخير، لكننا نخاف عليه، هذا من حيث التعيين. أما من حيث العموم: فنقطع أن المسلمين في الجنة، ونقطع أن الكفار من أهل النار. الأصل في المسلم: العدالة، وهذه قاعدة عظيمة فلا نسيء الظن فيه ولا نتجسس عليه، ولا نتتبعه، لكن إن ظهر لنا شيء حكمنا به عليه، وإن لم يظهر شيء فلا نسيء الظن بالمسلمين، فنعامله بما يظهر منه، ونحن لسنا مكلفين بالبحث عن الناس والتحري عنهم والحكم عليهم، لم يكلفنا الله بذلك (7) نحسن الظن بهم، وسرائرهم إلى الله تعالى، ولم نكلف أن نبحث عن الناس وعن أحوالهم، والواجب ستر المسلم وإحسان الظن به، والتآخي بين المسلمين (8) لا يجوز قتل المسلم، واستباحة دمه؛ لأن الله عصمه بالإسلام، قال عليه الصلاة والسلام: هل هناك أشد من هذا؟ فحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمة الكعبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى الكعبة قال: وجاء عنه عليه الصلاة والسلام: الأول: الثيب الزاني، هو المحصن الذي سبق أن وطأ زوجته في نكاح صحيح وهما عاقلان بالغان حران، فإذا زنى رُجم حتى الموت. الثاني: المسلم إذا تعدّى على المسلم فقتله ظلماً وعدواناً، وطالب أولياء المقتول بالقصاص فيُقتل والثالث : هو المرتد، فيقتل حد الردة، وما عدا الثلاثة فدم المسلم محرَّم حرمةً عظيمة. كذلك البغي، إن بغى على المسلمين ولو كان مسلماً فالبغاة يقاتلون؛ لأنهم يريدون أن يفرقوا كلمة المسلمين، ويخرجوا على إمامهم، فيجب قتالهم وكذلك تستباح دماء قطاع الطريق فهؤلاء أحل الله قتلهم؛ لدفع شرهم وعدوانهم . هذه مسألة عظيمة، فمن أصول أهل السنة والجماعة: أنهم لا يرون الخروج على ولاة أمر المسلمين قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (ما خرج قوم على إمامهم إلا كانت حالتهم بعد الخروج أسوأ من حالتهم قبل الخروج) أو كما ذكر. وهذا حتى عند الكفار، إذا قاموا على ولي أمرهم وخرجوا عليه، فإنه يختل أمنهم ويصبحون في قتل وقتيل، ولا يقر لهم قرار، كما هو مشاهد في الثورات التي حدثت في التاريخ، فكيف بالخروج على إمام المسلمين؟ فلا يجوز الخروج على الأئمة وإن كانوا فساقاً، ما لم يخرجوا عن الدين، قال عليه الصلاة والسلام: ( فأصول المعتزلة خمسة: الأول: التوحيد، ومعناه: نفي الصفات، ويرون من يثبت الصفات فهو مشرك. الثاني: العدل، ومعناه: نفي القدر، فيقولون: إن إثبات القدر جور وظلم، ويجب العدل على الله. الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريدون به الخروج على أئمة المسلمين إن كان عندهم معاصٍ دون الكفر. وهذا هو المنكر بنفسه، وليس من المعروف في شيء. الرابع: المنـزلة بين المنـزلتين، وهو الحكم على أصحاب الكبائر بالخروج من الإسلام، وعدم الدخول في الكفر، وأما الخوارج فيحكمون عليه بالكفر. الخامس : إنفاذ الوعيد، ومعناه، أن من مات على معصية وهي كبيرة من الكبائر دون الشرك، فهو خالد مخلد في النار، فهم يوافقون الخوارج في مصيره في الآخرة، ويخالفون الخوارج في أنه في منـزلة بين المنـزلتين، وألّف فيها القاضي عبد الجبار –من أئمتهم- كتاباً سماه: شرح الأصول الخمسة. الجور معناه: الظلم، وإن تعدوا وظلموا الناس بأخذ أموالهم، وضرب ظهورهم، أو يقتلون المسلم، فلا يرون الخروج عليهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يجوز الدعاء عليهم: لأن هذا خروج معنوي، مثل الخروج عليهم بالسلاح، وكونه دعا عليهم؛ لأنه لا يرى ولايتهم، فالواجب الدعاء لهم بالهدى والصلاح، لا الدعاء عليهم، فهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، فإذا رأيت أحداُ يدعو على ولاة الأمور، فاعلم أنه ضال في عقيدته، وليس على منهج السلف، وبعض الناس قد يتخذ هذا من باب الغيرة والغضب لله عز وجل، لكنها غيرة وغضب في غير محلهما؛ لأنهم إذا زالوا حصلت المفاسد. قال الإمام الفضيل بن عياض –رحمه الله- ويروي ذلك عن الإمام أحمد يقول: (لو أني أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان). والإمام أحمد صبر في المحنة، ولم يثبت عنه أنه دعا عليهم أو تكلم فيهم، بل صبر وكانت العاقبة له، هذا مذهب أهل السنة والجماعة. فالذين يدعون على ولاة أمور المسلمين ليسوا على مذهب أهل السنة والجماعة، وكذلك الذين لا يدعون لهم، وهذا علامة أن عندهم انحرافاً عن عقيدة أهل السنة والجماعة. وبعضهم ينكر على الذين يدعون في خطبة الجمعة لولاة الأمور، ويقولون: هذه مداهنة، هذا نفاق، هذا تزلف. سبحان الله ! هذا مذهب أهل السنة والجماعة، بل من السنة الدعاء لولاة الأمور؛ لأنهم إذا صلحوا صلح الناس، فأنت تدعو لهم بالصلاح والهداية والخير، وإن كان عندهم شر، فهم ما داموا على الإسلام فعندهم خير، فما داموا يُحَكِّمون الشرع، ويقيمون الحدود، ويصونون الأمن، ويمنعون العدوان عن المسلمين، ويكفون الكفار عنهم، فهذا خير عظيم، فيدعى لهم من أجل ذلك. وما عندهم من المعاصي والفسق، فهذا إثمه عليهم، ولكن عندهم خير أعظم، ويُدعى لهم بالاستقامة والصلاح فهذا مذهب أهل السنة والجماعة، أما مذهب أهل الضلال وأهل الجهل، فيرون هذا من المداهنة والتـزلف، ولا يدعون لهم، بل يدعون عليهم. والغيرة ليست في الدعاء عليهم، فإن كنت تريد الخير؛ فادعُ لهم بالصلاح والخير، فالله قادر على هدايتهم وردهم إلى الحق، فأنت هل يئست من هدايتهم؟ هذا قنوط من رحمة الله، وأيضاً الدعاء لهم من النصيحة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ولا ننـزع يداً من طاعتهم) هذا تأكيد لما سبق، حتى ولو حصل منهم ظلم وجور ومعاصٍ وكبائر دون الشرك، فإننا لا ننـزع يداً من طاعتهم، ولا نخرج عليهم ولا نعصيهم قال تعالى : ندعو الله أن يرجعهم إلى الحق، ويصحح ما عندهم من الخطأ، ندعو لهم بالصلاح؛ لأن صلاحهم صلاح للمسلمين، وهدايتهم هداية للمسلمين، ونفعهم يتعدّى لغيرهم، فأنت إن دعوت لهم دعوت للمسلمين. هذا أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة، وهو اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: والبدعة: ما أُحدث في الدين مما ليس منه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: والبدع كثيرة جداً، فالناس يُحدثُون بدعاً كثيرة، فالبدع لا تُقرّ ولا يُعمل بها مهما كانت وممن صدرت، ومن البدع ما يعمل من الاحتفالات بالمولد النبوي، فهو بدعة، ليس عليه دليل من الكتاب ولا السنة ولا هدي الخلفاء الراشدين، ولا من هدي القرون المفضلة التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، إنما أُحدث بعد هذه القرون لما فشا الجهل، وأول من أحدث المولد: الشيعة الفاطميون، ثم أخذه الأغرار المنتسبون لأهل السنة عن حسن نية وقصد، ويزعمون أنه من محبة الرسول، وليس ذلك من محبته، إنما المحبة بالاتباع لا الابتداع: لو كان حبك صادقاً لأطعته ** إن المحب لمن يحب مطيــع فعلامة المحبة الصادقة: الاتباع، أما الابتداع فهي علامة على الكراهة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من البدعة، وأنت تحييها وتحدثها، فمعنى ذلك أنك تكره السنة، وإذا كنت تكره السنة فأنت تكره الرسول فإن كنت تريد الخير فتب إلى الله وارجع، أما العناد والمكابرة فهذا اختيار سيئ لنفسك. وكذلك نلزم الجماعة ونترك الشذوذ؛ فلا نأتي بعمل ولا بقول شاذ ليس عليه عمل المسلمين وقولهم؛ لأن هذا يُفرّق الكلمة ويحدث العداوة، فما دام المسلمون يمشون على منهج الكتاب والسنة، فلا نترك ما هم عليه لقول شاذ، فالشذوذ والمخالفات لا تجوز، والحمد لله، المسلمون يبحثون عن الحق، وإجماعهم فيجب التثبت في هذه الأمور، ولا ننبش في أقوال وأفعال مهجورة ونؤلف فيها ونشوش على الناس أمور دينهم، والشذوذ: مخالفة ما عليه جماعة المسلمين، والخلاف ضد الاتفاق، والفرقة ضد الاجتماع، والشذوذ ضد الائتلاف، أما أن نبحث عن الشاذ، فهذا تضليل للأئمة وتجهيل لهم، وهل أنت أوتيت علماً أكثر من علمهم، وخصصت بعلم لم يصلوا إليه؟ وما آل إليه بعض الناس من هذه الأمور في العصور المتأخرة التي يفشو فيها الجهل، وأغلب ما يصدر ذلك عن واحد متعالم وليس بعالم، ولم يدرس العقيدة الصحيحة والفقه، إنما تفقه على نفسه وصار يضيف إلى دين الله ما ليس منه، وهذه مصيبة، فالعلم ليس بفوضى، إنه يحتاج إلى ضوابط وفقه ودراية. المحبة عمل قلبي ، والمحبة على قسمين: أولاً: محبة طبيعية، كمحبة الإنسان لأهله وزوجته وأولاده، ومحبته لأصدقائه، ومحبته للأكل والشرب، فهذه المحبة لا تدخل في أمر العبادة. ثانياً: محبة دينية، وهذه على نوعين: النوع الأول: محبة الله سبحانه وتعالى، وهي أعظم أنواع العبادة، يقول ابن القيم: وعليهما فلك العبادة دائر ** ما دار حتى قامت القطبان عبادة الرحمن غاية حبه، أي: منتهى حبه، وتدور عليها أمور العبادات كلها، فهي نوع عظيم من أنواع العبادة، لا يجوز أن يُحب أحد مع الله النوع الثاني: المحبة في الله ولأجل الله، وذلك بأن تحب ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص، وتحب أهل الإيمان والتقوى، وهذه تسمى المحبة في الله، وهي أوثق عرى الإيمان، كما جاء في الحديث: فتحب أولياء الله لأن الله يحبهم، وتبغض أعداء الله لأن الله يبغضهم، فيكون الحب والبغض من أجل الله، وليس طمعاً في الدنيا، فلا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله، ويوالي ويعادي الله. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً". وهذه المحبة تبقى في الدنيا والآخرة، وأما محبة الدنيا فتنقطع، وتكون عداوة في الآخرة وتبغض الشخص من أجل الله، وليس من أجل أنه أساء إليك؛ بل تبغضه؛ لأنه عدو لله، وهذه ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام: الحب والبغض في الله، ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وقد ذكر العلماء أن الناس في المحبة على ثلاثة أقسام: القسم الأول: منهم من يحب محبة خالصة ليس معها بغضاء، وهم الملائكة والرسل عليه الصلاة والسلام، وخُلّص المؤمنين كالصحابة القسم الثاني: من يبغض بغضاً خالصاً ليس معه محبة، وهم الكفار، أعداء الله القسم الثالث: من يجتمع فيه محبة وبغض، وهو المؤمن العاصي، يحب من وجه، ويبغض من وجه، تحبه لما فيه من الخير والطاعة، وتبغضه لما فيه من المعاصي والمخالفة، هكذا ينبغي على المسلم أن يميز. والمحبة بابها باب عظيم ينبغي التنبه له ومعرفته؛ لأن عليه مداراً عظيماً في العقيدة وأمور الدين، فالإنسان لا يمشي إمعة، لا يدري من يحب ومن يبغض، بل يجعل المحبة والبغضاء ميزاناً يفرق بين أولياء الله وأولياء الشيطان، ولا يجعله ميزاناً دنيوياً وهوى، فمن وافقه على دنياه وهواه وأعطاه شيئاً من الدنيا أحبه، ولو كان من أكفر الناس وأفسقهم، وإن لم يعطه شيئاً أبغضه، ولو كان من أصلح الصالحين، فهذا لا يجوز. هذه مسألة عظيمة، وهي مسألة العلم فالإنسان لا يقول ما لا يعلم، إن علم شيئاً قال به، وإن جهل شيئاً فلا يقول به، ولا يقول في أمور الدين والعبادات ولا يدخل فيها بغير علم، بل يتوقف، ويقول: الله أعلم. والإمام مالك إمام دار الهجرة، جاءه رجل فسأله عن أربعين مسألة، فأجاب عن أربع منها، وقال في الباقي: لا أدري، فقال الرجل: أنا جئتك من كذا وكذا على راحلتي وتقول: لا أدري؟ قال له الإمام: اركب راحلتك، وارجع إلى البلد الذي جئت منه، وقل: سألت مالكاً فقال: لا أدري!! والنبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن شيء لم ينـزل عليه فيه وحي فإنه ينتظر حتى ينـزل عليه وحي، كذلك الصحابة إذا سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء لا يعلمونه قالوا: "الله ورسوله أعلم"، لا يتخرصون. فهذا الباب عظيم وخطير، والله عز وجل جعل القول عليه بغير علم مرتبة فوق الشرك به سبحانه وتعالى : يا أخي، يسعك أن تقول: لا أدري، ومن قال: لا أدري، فقد أجاب، ولا تتخرص وتخوض في أحكام الشرع بغير بصيرة، وقول: لا أدري، فيما لا تعلم، ليس نقصاً فيك، بل العكس، هو كمال؛ لأنه ورع وتقوى، والناس يحمدونك على هذا، كثير من المنتسبين إلى العلم –وبخاصة في هذه الأزمنة المتأخرة التي قل فيها الفقهاء وكثر القراء- يفتون ويحكمون ويتخبطون في الأحكام الشرعية في وسائل الإعلام وغيرها بغير بصيرة، ومن فضل الله أنهم انكشفوا أمام الناس بجهلهم، وفضحهم الله عز وجل، ولو أنهم ستروا أنفسهم وتوقفوا عما ليس لهم به علم وتورّعوا؛ لكان ذلك أكمل وأجل لهم عند الله وعند الناس، فلنعتبر بهذا. لماذا جاء بهذه المسألة –وهي مسألة فقهية- في العقيدة؟ لأن هذه المسألة أنكرها المبتدعة، وأثبتها أهل السنة، والمسح على الخفين تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وممن اشتهر عنهم إنكار المسح على الخفين: الرافضة، ويخالفون أهل السنة والجماعة في ذلك، ويخالفون الأحاديث الثابتة، فالمسح ثابت، يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، وهذه رخصة وتسهيل من الله على عباده. فالرافضة ينكرون المسح على الخفين، ويقولون بالمسح على الرجلين، وهذا من أكبر المغالطة، فلا أحد يقول بالمسح على الرجلين، وهكذا من ترك الحق ابتلاه الله بالباطل. استدل الرافضة على المسح على الرجلين: بقوله تعالى: وعند أهل السنة والجماعة أن المراد بالكعبين: العظمان الناتئان في أسفل الساق، مجمع الساق مع الرجل، فالمسح للرجلين باطل؛ لأن المشهور من قراءة الآية: الفتح، عطف على المغسولات، على أما قراءة (وأرجلكم) بالجر فهي صحيحة، ولكن عنها أربعة أجوبة الجواب الأول أن وجه الجر هنا على المجاورة، وهذه لغة عند العرب، مثل أن تقول: هذا جحر ضب خربٍ، خربٍ ليست صفة لضب، إنما هي صفة لجحر، وجحر مرفوع. ولكن من أجل المجاورة، ومن أجل سهولة النطق جُرّت للمجاورة. والثاني: أن المراد بالمسح: الغسل، فالغسل يسمى مسحاً، تقول: تمسحت بالماء، يعني اغتسلت به، فالمراد بمسح الرجلين غسلهما، بدليل قراءة النصب. الجواب الثالث: أن المشهور من القراءتين: قراءة النصب وهنا لا إشكال. الجواب الرابع: أن غسل الرجلين هو صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نقلها عنه أصحابه، لم يرد في حديث واحد –ولو ضعيف- أن رسول الله عليه الصلاة والسلام مسح رجليه، وكذلك ما ثبت ذلك عن أصحابه، بل لما رأى صلى الله عليه وسلم رجلاً في رجله لمعة لم يصبها الماء، أمره بإعادة الوضوء، وقال عليه الصلاة والسلام: تقدمت مسألة الصلاة خلف الأئمة، سواء كانوا أبراراً أو فجّاراً، فنصلي خلفهم امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أمرنا بطاعتهم، ونهانا عن مخالفتهم، والصحابة –رضوان الله عليهم- امتثلوا أمره، فكانوا يصلون خلف الأمراء، وإن كانوا يفعلون بعض الكبائر، مثل الحجاج وغيره. وهذا الفعل من أجل جمع الكلمة، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، خلاف الخوارج والمعتزلة. وقوله: (نرى الحج والجهاد): يجب على المسلمين كل سنة أن يقيموا الحج، أما الأفراد: فإذا حج أحدهم مرة واحدة فإنه تكفيه، ومن زاد فتطوع. والذي يقيم الحج؟ هو إمام المسلمين هو الذي يقود الحجيج، ويعلن يوم عرفة، ويقف بهم بعرفة، ويفيض إلى مزدلفة، وهكذا يتبعونه في المشاعر، وسواء الإمام أو من ينوب عنه، ولا يكون الأمر فوضى. وأهل السنة والجماعة يحجون مع إمامهم، قال عليه الصلاة والسلام: هذه أمة الإسلام، يصومون جمعياً إذا اتفقت المطالع، ويحجون جميعاً، ويصلون العيد جميعاً، فالجماعة من سمة أهل السنة، والافتراق من سمة أهل البدع والضلال. والجهاد: المراد به: قتال الكفار والبغاة من المسلمين وقتال الخوارج، نقاتل مع إمام المسلمين؛ فنقاتل البغاة لبغيهم وليس لكفرهم وقتال الكفار من أجل نشر التوحيد، وقمع الشرك. وقتال الكفار على نوعين: النوع الأول: قتال دفاع، وهذه الحالة تكون في حالة ضعف المسلمين، فإنه إذا داهم العدو بلادهم وجب عليهم قتالهم، فيجب على جميع من يحمل السلاح قتالهم؛ من أجل دفع العدو عن أرضهم. النوع الثاني: قتال طلب، وذلك إن كان المسلمون أقوياء، فإنهم يغزون العدو في بلادهم، ويدعونهم إلى الله، فإن أجابوا وإلا قاتلوهم من أجل إعلاء كلمة الله ذكر ابن القيم رحمه الله أن الجهاد مر بمراحل: المرحلة الأولى: كان منهياً عنه فيها، وهذا يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بمكة، فكانوا مأمورين بكف الأيدي وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة المرحلة الثانية: لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقامت دولة الإسلام، أُذن له بالقتال ولم يؤمر المرحلة الثالثة: أُمر بقتال من قاتل، والكف عمن لم يقاتل المرحلة الرابعة: لما قوي المسلمون، وكانت لهم شوكة، وللإسلام دولة، أُمروا بالقتال مطلقاً فأمر الله بالقتال مطلقاً، فلما صاروا متهيئين ولهم قوة وعندهم استعداد، فشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو، غزوة بدر وأحد والخندق وهكذا، حتى جاء الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حصلت الردة فقاتلهم أبو بكر، فلما فرغ منهم شرع في الجهاد للكفار، فجيّش الجيوش لقتال فارس والروم، وتوفي، ثم جاء عمر رضي الله عنه فواصل الفتوح حتى أسقط دولة كسرى وقيصر، ونشر الدين وصارت سيطرتهم على جميع الأرض مشارقها ومغاربها، هذا هو القتال في الإسلام. ومن ينظم القتال ويقوده؟ هو الإمام، فنحن نتبع الإمام، فإن أُمرنا بالغزو نغزو، ولا نغزو بغير إذن الإمام؛ فهذا لا يجوز؛ لأنه من صلاحيات الإمام فالقتال من صلاحيات الإمام، فإذا استنفر الإمام الناس للقتال وجب على كل من أطاق حمل السلاح، ولا يشترط في الإمام الذي يقيم الحج والجهاد أن يكون غير عاصٍ، فقد يكون عنده بعض المعاصي والمخالفات، لكن ما دام أنه لم يخرج من الإسلام فيجب الجهاد والحج معه، وصلاحه وقوته للمسلمين وفساده على نفسه، أما الجهاد والحج ففي صالح المسلمين، كذلك الصلاة، فإن أصاب كنا معه، وإن أخطأ فنتجنب إساءته، لكن لا نخرج ونشق عصا الطاعة، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وعليه تقوم مصالح المسلمين. أما أهل البدع والضلال فيرون الخروج على ولاة الأمور، وهذا مذهب الخوارج، ونحن نبرأ إلى الله من هذا المذهب . الإيمان بالملائكة عليهم السلام هو أحد أركان الإيمان. وهذه الأصول موجودة في القرآن الحفظة: وهم الذين وكل الله إليهم حفظ بني آدم، وحفظ أعمالهم، فكل عبد من بني آدم معه أربعة يحفظونه بالليل والنهار، اثنان حفظة، واحد عن اليمين وواحد عن اليسار، الذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن اليسار يكتب السيئات قال سبحانه : ففي بعض الآيات أسند الموت إلى الملائكة، وفي بعض الآيات أسند إلى ملك واحد، فدل هذا على أن الملائكة لهم رئيس هو ملك الموت. ومسألة الموت لا أحد ينازع فيها، أما ملك الموت وأعوانه فينكرهم بعض بني آدم، ولكن الإيمان بالملائكة أصل من أصول الإسلام والإيمان الثابتة بالكتاب والسنة، فمن أنكر وجود الملائكة عموماً أو ملكاً من الملائكة فهو كافر؛ لأنه جحد ركناً من أركان الإيمان. ذكر شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية أن الإيمان باليوم الآخر يدخل فيه كل ما بعد الموت من عذاب القبر ونعيمه ومن البعث ومن العرض والحساب والميزان وتطاير الصحف والجنة والنار، ومن أنكر شيئاً منها فإنه لا يكون مؤمناً باليوم الآخر. واليوم الآخر وما فيه من أمور الغيب التي لا ندخل فيها بعقولنا وأفكارنا، إنما نعتمد على ما جاء في الكتاب والسنة، ولا نتدخل في هذه الأمور، ولا نقول فيها إلا بالدليل . والقبر برزخ بين الدنيا والآخرة والبرزخ معناه الفاصل بين شيئين القبر محطة انتظار، وينتقل الناس بعده إلى البعث والحساب، وذكر ابن القيم رحمه الله أن الدور ثلاث: الأولى: دار الدنيا: وهي محل العمل والكسب من خير أو شرف. الثانية: دار البرزخ، وهي دار مؤقتة، ولهذا يخطئ من يقول مثواه الأخير. الثالثة: دار القرار، وهي الجنة أو النار: فإذا وضع الميت في قبره ودفن وانصرف الناس عنه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، كما في الحديث، فإنه تُعاد روحه في جسده، وهذه حياة برزخية لا يعلمها إلا الله، والله على كل شيء قدير، وبعد أن تُعاد روحه في جسده ويُحيى حياة أخرى فيأتيه ملكان فيسألانه ثلاثة أسئلة: من ربك؟ وما دينك؟ وما نبيك؟ (27) فإن أجاب بجواب صحيح فاز وربح، وصارت حفرته روضة من رياض الجنة، ثم يوم القيامة يصير من أهل الجنة. وإن أخفق في الجواب، ولم يجب، فإن قبره يصير حفرة من حفر النار، ويُضيّقُ عليه قبره حتى تختلف عليه أضلاعه، والأول يوسع له في قبره مد بصره، ويفتح له باب من الجنة يأتيه من روحها وريحانها، وهذا يضيق عليه في قبره حتى تختلف عليه أضلاعه، ثم يفتح له باب من النار فيأتيه من حرها وسمومها، والعياذ بالله. فالإجابة الصحيحة والتي يُثبت الله قائلها: أن يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيّ محمد صلى الله عليه وسلم وهذا بسبب الإيمان بالله ورسوله، وليس بسبب التعلم أو الثقافة، فمن ليس عنده إيمان فإنه يتلكأ في الإجابة، وهو المنافق الذي يُظهر الإيمان في الدنيا ويُبطن الكفر، فإنه لا يستطيع الإجابة ويقول: هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق
قد يقول قائل: الميت يصير تراباً، فكيف يعذب وهو تراب؟ نقول: الله قادر على أن يعذبه وهو تراب، وقادر على أن يحمي عليه التراب. وقد يقول قائل : ما كل الناس يدفنون، بعضهم يُلقى في البحر، وبعضهم تأكله السباع، فكيف يأتيه العذاب؟ نقول: نعم يأتيه العذاب، في أي مكان كان، وكذلك يأتيه الملكان، والإيمان بهذا هو من الإيمان بالغيب، ومن الإيمان بخبر الله ورسوله، أما الذي لا يؤمن بذلك ويعتمد على عقله وفكره، فهذا هو الضلال المبين. وعذاب القبر ونعيمه دلت عليه أدلة من الكتاب والسنة، بل قال العلماء: إن الأحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كذب بالأمر المتواتر يكون كافراً. فالمعتزلة لا يؤمنون بما يحدث في القبر؛ لأنهم عقلانيون، وهم الذين يبنون الأمور على عقولهم، ويسمون أدلة الشرع ظنية، فأما أدلة العقل عندهم فهي يقينية، فهكذا يقولون، وهؤلاء هم العقلانيون، وهم المعتزلة ومن سار على نهجهم من العقلانيين في هذه العصور. ومن أدلة عذاب القبر: قول الله عز وجل في قوم فرعون: وقيل هو : العذاب في الدنيا: ما يصيبهم من القتل والسبي وضرب الجزية وغير ذلك، والآية تشمل المعنيين، وقوله تعالى: أما السنة فتواترت الأحاديث بإثبات عذاب القبر، منها: في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام مر على قبرين فقال: وكذلك الحديث الصحيح الذي أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من أربع وغير ذلك من الأدلة، وقد يشاهد بعض الناس ما يحصل من عذاب القبر من أجل العظة والعبرة. ذكر الحافظ ابن رجب في كتابه "أهوال القبور وأحوالها أهلها إلى يوم النشور" ذكر عجائب، وذكر ابن القيم في كتابه "الروح" عجائب. وقوله: (على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ لأن ما في القبر من النعيم والعذاب من أمور الغيب، فلا نثبت إلا ما جاء به الدليل، ولا ننكر ما جاء به، هذا مذهب أهل السنة والجماعة. بعد البرزخ يبعث الناس من قبورهم، فهذه القبور تضم الأجساد وتحفظها، فإذا جاء البعث فإن الله ينشئ هذه الأجسام كما خلقها أول مرة، لا ينقص منها شيء فتعاد كما كانت، بحيث لو مر شخص على رجل يعرفه لقال: هذا فلان، ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور النفخة الثانية، فتطير الأرواح إلى أجسادها. والمحشر: مجمع الأمم، يجمع الله الأولين والآخرين بعد البعث، فالله على كل شيء قدير، والإيمان بالعبث أحد أركان الإيمان الستة، كما في الحديث. وأنكر البعث المشركون والملاحدة بناء على عقولهم، فقالوا: والله عز وجل ذكر أدلة عقلية على البعث ومن الأدلة: إحياء أرض يابسة قاحلة بيضاء ما فيها شيء، ثم ينـزل الله عليها المطر، ففي أيام قليلة تهتز بالنبات. أليس الذي يحيي الأرض بعد موتها بقادر على أن يعيد خلق الإنسان؟ فهذا شيء معقول وشيء محسوس ومن الأدلة على البعث أيضاً: أن الله عز وجل لو لم يبعث الناس ويجازيهم لكان خلقه عبثاً، والله سبحانه وتعالى منـزه عن العبث فالإنسان الذي يفني نفسه بالعبادة والطاعة في الدنيا فيموت ولا يبعث!؟ كذلك الكافر يعيث في الأرض فساداً ويفعل الفواحش ويموت ولا يبعث!؟ هذا لا يكون من حكمة الله فالمؤمن قد لا ينعم في الدنيا، ويكون في ضيق وشدة، فلا ينال جزاء عمله!؟ والكافر ينعم ويبطش ويفسد في الأرض ولا ينال جزاءه!؟ هذا لا يليق بحكمة الله عز وجل. والبعث معناه القيام من القبور (والعرض) يعني: على الله (والحساب) على الأعمال: تقرير الحسنات وتقرير السيئات، هذا بالنسبة للمؤمنين، أما الكافر فإنه لا يحاسب حساب موازنة بين حسناته وسيئاته، وإنما يقرر بذنوبه وكفره؛ لأنه ليس له حسنات. والمؤمنون منهم من يدخل الجنة بغير حساب، ومنهم من يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهل مسروراً، وهو العرض، ومنهم من يُناقش الحساب، وفي الحديث : (والكتب) : صحائف الأعمال التي عملوها في الدنيا، كل يعطى يوم القيامة كتابه وصحيفة أعماله التي عملها في الدنيا، مكتوب فيها كل شيء وهذا تطاير الصحف، إما باليمين أو بالشمال. (والثواب والعقاب) الثواب على الحسنات، والعقاب على السيئات. (والصراط) وهو: الجسر المنصوب على متن جهنم، أحدُّ من السيف، وأدَقُّ من الشعر، وأحرُّ من الجمر، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يمر عدواً ومنهم من يمر مشياً، ومنهم من يمر حبواً، ومنهم من تلقطه كلاليب على حافتي الجسر وتقذفه في النار، وهذه أمور غيب، فلا يُدخلُ الإنسان عقله فيها، وكل الناس يمرون على الصراط وتوزن الحسنات، فإن رجحت حسناته فاز، وإن رجحت سيئاته على حسناته خاب وخسر وتكرر ذكر الوزن والميزان في آيات كثيرة، وهذا من عدل الله عز وجل، وأنه لا يظلم أحداً. والميزان حقيقي، له كفتان: توضع الحسنات في كفّه، وتوضع السيئات في كفة، فأيهم رجحت حسناته فاز، وأيهم رجحت سيئاته فخسر ومما يكون في يوم القيامة: الجنة دار المتقين، والنار دار المجرمين، قال الله تعالى في الجنة: الله قدر للجنة أهلاً، وكذلك للنار أهلاً، فعلى حسب عملهم يجازون. الجنة لا تُنال بالعمل، إنما هو سبب، وإنما الجنة تنال بفضل الله، فمهما عمل ابن آدم من الأعمال الصالحة وإن كثرت فإنها لا تقابل الجنة، إنما تنال بفضل الله عز وجل، والعمل الصالح سبب ودخول النار بسبب الكفر، عدلاً من الله، أدخله النار، لا بظلم، إنما أدخله بسبب عمله. إن كان من أهل السعادة فإنه يعمل بعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيعمل بعمل أهل الشقاوة، قال عليه الصلاة والسلام: وقال تعالى : سبق بحث هذا في القدر، والإيمان بالقدر –كما سبق- هو أحد أركان الإيمان الستة، كما قال عليه الصلاة والسلام: والمؤلف أخذ هذا المعنى من نص الحديث. فالخير والشر بتقدير الله عز وجل؛ لأنه لا يقع شيء في هذا الكون إلا بقضاء الله وقدره، لابد من الإيمان بذلك. فالله عز وجل خلق الخير والشر لحكمة فالخير يحبه الله ويخلقه ويقدره، والشر يبغضه الله ويسخطه، ولكن يخلقه ويقدره لحكمة، للابتلاء والامتحان، لو لم يوجد الشر ما ظهر الكفر وعداوة الأنبياء والرسل، ولو لم يوجد الخير لما ظهر الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والموالاة والمعاداة، ولا تميز الناس. قد يعترض معترض ويقول: الله يبغض الشرك والكفر، فكيف يقدر ذلك؟ ونقول: قدر ذلك لحكمة؛ ليتميز الناس فالأمور لا تصلح إلا إذا وجدت المتضادات. الاستطاعة هي القدرة من الإنسان، وهي على قسمين: الأول: استطاعة يتعلق بها التكليف والأمر والنهي. الثاني: استطاعة يستطيع بها الإنسان الفعل والتنفيذ. القسم الأول: الاستطاعة التي يتعلق بها التكليف، معناها: الوسع، أن يكون عند الإنسان وسع، أن يفعل أو لا يفعل، عنده إمكانية وتمكن، فالتكليف يتعلق بهذه الاستطاعة، فالإنسان الذي ليس عنده تمكن واستطاعة لا يكلف، كالمجنون والصغير، فلا يكلف فلا يُؤمر ولا يُنهى، ولكن الصغير إن بلغ سبع سنوات فإن عنده استطاعة فيُؤمر بالصلاة من باب الاستحباب والتربية، والتدريب على فعل العبادة، فلا تجب عليه إلا إذا بلغ فيكلف، وهذا النوع يكون قبل الفعل. القسم الثاني: الاستطاعة التي يكون فيها التنفيذ، وإيجاد الشيء، فهذه تكون مع الفعل فالحج مثلاً فيه الاستطاعتان، قال تعالى: ومثل دخول وقت الصلاة يوجب الصلاة على المكلف، ويكون التنفيذ بحسب استطاعته، فالمريض يصلي قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب، فالصلاة تجب عليه على كل حال؛ لأنه في استطاعته ذلك، وهذه الاستطاعة قبل الفعل، أما التي مع الفعل قد تكون معدومة نهائياً، وقد تكون موجودة، ولكن ليست تامة، فيجب عليه على قدر استطاعته. وفيه فرق بين الاستطاعتين: فالأولى يتعلق الخطاب بها، كما قال تعالى: هذه المسألة حصل فيها نزاع ومزلة أقدام ومضلة أفهام، هل الأفعال مخلوقة لله أو هي من خلق العباد؟ القول الأول: قول الجبرية والجهمية: إن العبد مجبور، ليس له دخل في الأفعال، فهي محض خلق الله عز وجل، فصلاته التي يؤديها ليس باختياره، إنما هو مجبور وهؤلاء غلوا في إثبات قدرة الله. وقولهم هذا ضلال مبين، ومعناه أن الله يظلمهم ويعذبهم على شيء ليس لهم فيه اختيار، وليس لهم فيه استطاعة، وإنما الله يعذب العبد على فعل غيره، ويثيبه على شيء لم يفعله، وهذا المذهب أخبث المذاهب. القول الثاني: وهو مضاد للقول الأول تماماً، وهو قول المعتزلة، يقولون: الأفعال من إنتاج العبد وإرادته المطلقة ومشيئته، وليس لله تدخل فيها، وإنما العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، فهؤلاء غالوا في إثبات قدرة العبد. ويلزم من قولهم أن الله عاجز، وأن الله يشاركه غيره في الخلق والإيجاد، وهذا قول المجوس، ولذلك المعتزلة سُمُّوا: مجوس هذه الأمة (36) والمذهب التوسط مذهب أهل السنة والجماعة، على ضوء الكتاب والسنة، قالوا: أفعال العباد هي فعلهم بإرادتهم ومشيئتهم، وهي خلق الله عز وجل قال الله تعالى: والدليل على أن العبد له إرادة وقصد: قوله تعالى:
قال تعالى: هذا فيه نظر؛ بل يطيقون أكثر مما كلفهم، ولكن الله يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، فالله وضع عنهم المشقة، وشرع لهم الدين اليسر، ونهاهم عن الزيادة على الاعتدال، فلا يجوز للإنسان أن يصلي كل الليل، وكذلك لا يجوز له ترك الزواج، قال عليه الصلاة والسلام: (لا حول) أي: لا تحول من حال إلى حال (إلا بالله) عز وجل وإعانته. وكذلك: ليس لك قوة إلا من قوة الله عز وجل، ففي هذا تسليم وبراءة من الحول والقوة، فالإنسان لا يُعجب بحوله ولا بقوته، وإنما يرجع إلى الله عز وجل، فتستعين بالله، فيعينك على الطاعة، ومن التحول من المعصية إلى الطاعة، ومن الكفر إلى الإسلام، فكل شيء بحول الله وقوته، ولو وكلك إلى حولك لم تستطع، وكذلك الكد والكسب لطلب المال، هذا الكد والتعب منك، ولكن التوفيق ووضع البركة من الله عز وجل. لا يقع في ملكه شيء إلا بعلمه وتقديره فهو ما قضاه وقدره، وكتبه في اللوح المحفوظ، فكل ما يجري في الكون فهو بقضاء الله وقدره. قال تعالى :
|